التوازن بين العقل والعاطفة

يشكل العقل والنفس ، أو العقل والعواطف والانفعالات أهم جانبين في حياة المفكر المعنوية ، وبين هذين الجانبين تحالفات وتعارضات.

والسعي في إيجاد نوع من التوازن بينهما مطلب شرعي وإنساني وحياتي ، وهو شكل من أشكال الابتلاء الكثيرة التي على المفكر أن ينجح فيها .
وإن المفكر الحقيقي هو الذي يوازن بين العقل والعاطفة ، ويجعل أحكامه ورؤيته للقضايا والأفكار على ميزان معتدل .

إن عواطفنا تنقسم إلى قسمين : عواطف إيجابية مثل عاطفة الحب والرحمة والشفقة والسرور. وعواطف سلبية مثل الحقد والغضب والكراهية والخوف والحزن والأنانية والجشع والكبر . وهذه المشاعر تتأثر تأثرا ً بالغا ً بالأفكار وبأحكام العقل عامة .

كثير من العواطف ينشأ وينمو نتيجة احتكاك العقل بالواقع ، أي نتيجة الخبرات التي تتحصل لدى الشخص .
وما دمنا أحياء فسنظل نكتسب خبرات جديدة ، وتنزاح من أمام أبصارنا بعض الأغشية التي تمنعنا من الرؤية الصحيحة ، ومن الواضح أن العقل البشري لا يكتشف الحقائق دفعة واحدة ، وإنما على سبيل التدرج .

وهذا يعني أن مما يساعد المفكر على التوازن بين العقل والعاطفة أن يحاول الاحتفاظ بنهايات مفتوحة في رؤيته للأشياء مما ينعكس بالتالي على عواطفه تجاهها .

وحين يتعمق المفكر في فهم الإسلام فإنه يجد أنه يقدم رؤية متقدمة لعلاقة الإنسان بالعواطف . وهذه الرؤية تقوم على عدم الاستسلام للعواطف ، فهي ليست ضرب لازب ، لا حول للمسلم تجاهها ولا طول ، كما يظن كثير من الجهلة والعجزة ، وإنما هي أمور يمكن التحكم بها وتوجيهها وتوزيعها على نحو راشد على مقتضى الالتزام بهدي الشرع وأحكام العقل .

لذا فإن المعركة الحقيقية التي على المفكر أن يخوضها هي المعركة بين العقل وبين العواطف والانفعالات السلبية التي تعد بمثابة أمراض نفسية أو أعراض وذيول لها مما يخل بتوازن العقلية المفكرة ويناقض أحكام العقل .

حين يتغلب المفكر على العواطف والانفعالات السلبية ، فإن نوعا ً جديدا ً من التوازن يبدأ في شخصيته إنه توازن بين العقل والعواطف الإيجابية ، وآنذاك ترتقي شخصيته بالابتعاد عن الرذائل الخلقية والنفسية وتختلف نوعية الأخطاء السلوكية التي يمكن أن يقع فيها لاختلاف مجال التوازن .

وعلى سبيل المثال : فإن الواحد منا حين يقوم بتربية أبنائه يجد نوعا ً من الصراع بين حكم العقل وبين نزوع العاطفة ، فحكم العقل يوجهه في بعض الأحيان إلى القسوة على ولده من خلال الضرب أو الحرمان من بعض الأشياء . ونزوع العاطفة يوجهه إلى الشفقة والتجاوز وغض الطرف . وفي هذه الحالة فإن الخضوع لأحكام العقل ، أو لإيحاءات العاطفة يظل في مضمار الاجتهاد السائغ . وحين تصبح أخطاء المفكر اجتهادية ، فهذا من أعظم البراهين والدلائل على سموه وارتقائه واتزانه ، وهذا ما يريده منا الشارع الحكيم .

وإن مما يساعد المفكر على إقامة التوازن بين العقل والعاطفة أن يعرف ويستخدم كلا ً منهما في مجاله الصحيح . فالعقل هو الدليل الذي يكتشف الواقع ويقيم الحدث ويحدد بالتالي رد الفعل المناسب . و هو أيضا الذي يرسم الخطط ويضع البرامج ويصوغ المنهج النقدي .
ومن المهم حتى يقوم بكل ذلك أن يُبعد عنه ـ قدر الإمكان ـ العواطف والميول الشخصية والأهواء والرغبات بإيحاءاتها وإشاراتها المختلفة .

والحقيقة أن المفكر يواجه مشكلة عويصة في هذا الشأن ، حيث إن رغبته في أمر تساعد العقل على استخراج محاسنه وميزاته وخصائصه . و العكس حين يبغض أمرا ً من الأمور .
حيث تقوم عواطفه السلبية نحوه بتحريض العقل على استخراج معائبه ونقائصه . ويتبدى له الأمر في الحالتين كما لو أن الحكم الذي يصدره حكم عقلي نقي وخالص . والحقيقة أنه ليس كذلك ولكن عليه أن يجتهد ويبذل الوسع .

إن العواطف والانفعالات ذات حيوية كبيرة في حياة المفكر ، فهي بالنسبة له أشبه بالحبل السري بالنسبة إلى الجنين ، إنها تمنحه المعنى والرواء ، وهي في الوقت نفسه جزء مهم من توازن شخصيته .
وحين يصاب إنسان بجمود أو برود العواطف ، فإنه يفقد أداة مهمة من أدوات التواصل مع الآخرين ، ويصبح أقرب إلى الجماد !

العواطف تشكل بالنسبة لأعمال المفكر وإنجازاته التعبدية والدنيوية الوقود الروحي الذي من غيره لا يستطيع الاستمرار في أداء الأعمال الشاقة ، كما لا يستطيع الصمود في وجه الشدائد والصعاب و مقاومة مغريات الشهوات .
ولذا فإن من الحيوي أن يروي العواطف الخيرة ويتعاهدها لتحافظ على نشاطها وتفاعلها ، والعمل الصالح بأوسع ما تحمله هذه الكلمة من معنى هو الماء الذي يسقي به عواطفه النبيلة .

العواطف عمياء ، لا تملك أي قدرة على الاختيار أو التميز ، والعقل راسم خطط وخرائط لكنه لا يملك المحرك والدافع والحماسة ، فهذه أمور توفرها العواطف والانفعالات وهكذا يقع التكامل بينهما .
كثيرون أولئك الذين يقدمون على أعمال كبيرة دون أي تخطيط جيد ، وإنما بدافع قوي من ميولهم ورغباتهم ، وتكون النهاية الغرق والإخفاق الذريع ، ويظهرون في النهاية في مظهر الذي اختل توازنه ، فبدا وكأنه لا ينتفع بشيء من عقله .

وهناك في المقابل أشخاص كثيرون يملكون الأفكار والرؤى والخطط الجيدة والواضحة ، لكنهم لا يملكون الحماسة لبذل الجهد ، فيظهرون بمظهر الفيلسوف الذي ينفر من الأشياء العملية لينغمس في تنظير وتحليل جميل ورائع لكنه بمفرده لا يصنع أي خطوة نحو الأمام .

إن توازن شخصية المفكر ملمح من أجمل ملامحها ، لأنه يحمل التناسق والتكامل والاعتدال والمنطقية ، وهي أمور لا تزين المفكرين وحدهم ، ولكنها تزين الوجود بأسره !

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]