أعلى الفِكَر وأنفعها

يحدّثنا الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن خمسة أقسام من الفِكَر التي تفيدنا, فيقول: “أعلى الفِكَر وأجلها وأنفعها: ما كان لله والدار الآخرة ", وهى أنواع:

أحدها: الفكرة في آياته المنزَّلة وتعقُلِها, وفَهْم المراد منها, ولذلك أنزلها الله تعالى, لا لمجرد تلاوتها بل التلاوة وسيلة. قال بعض السلف: “انزل القرءان ليُعْمَل به، فاتخذوا تلاوته عملًا”.

الثاني: الفكرة في آياته المشهودة والاعتبار بها، والاستدلال بها على أسمائه وصفاته وحكمته وإحسانه، وبره وجوده، وقد حض الله سبحانه على التفكر في آياته، وتدبرها، وتعقلها، وذم الغافل عن ذلك.

الثالث: الفكرة في آلائه وإحسانه، وإنعامه على خلقه بأصناف النعم، وسعته ورحمته ومغفرته وحلمه.

وهذه الأنواع الثلاثة تستخرج من القلب معرفة الله ومحبته وخوفه ورجائه, ودوام الفكرة في ذلك مع الذكر يصبغ القلب بالمعرفة والمحبة صبغة تامة.

الرابع: الفكرة في عيوب النفس, وآفاتها, وفي عيوب العمل, وهذه الفكرة عظيمة النفع, وهى باب كل خير, وتأثيرها في كسر النفس الأمَّارة بالسوء, ومتى كُسِِرت عاشت النفس المطمئنة, وانبعثت, وصار الحكم لها.
الخامس: الفكرة في واجب الوقت ووظيفته, وجمع الهم كله عليه, فالعارف ابن وقته, فإن أضاعهُ ضاعت عليه مصالحه كلها, فجميع المصالح إنما تنشأ من الوقت, وإن ضيَّعه لم يستدركه أبدًا؛ فوقت الإنسان هو عمره في الحقيقة, ووسيلته إلى حياته الأبدية في النعيم المقيم, ومادة معيشته الضنك في العذاب الأليم, وهو يمر أسرعُ من السحاب, فما كان من وقته لله وبالله فهو حياته وعمره, وغير ذلك ليس محسوبا من حياته, وإنْ عاش فيه عيش البهائم؛ فهو يقطع وقته في الغفلة والسهو والأماني الباطلة, فموت هذا خير له من حياته.

إنْ كان العبد – وهو في الصلاة – ليس له من صلاته إلا ما عقل منها, فليس له من عمره إلا ما كان فيه لله وبالله.
وما عدا هذه الأقسام من الفِكَر, فإمّا وساوس شيطانية, وإما أماني باطلة, وخدع كاذبة, بمنزلة أفكار المصابين في عقولهم .

هذه هي خطة إسلامية لتحقيق التربية الرسالية, والتي تبدأ من إيقاظ العقل ليحسن التفكير في:
تدبر كتاب الله تعالى لمعرفة المراد وتحقيق الامتثال له.
التفكر في آيات الله تعالى بالكون من حولنا لتحقيق الإيمان الراسخ.
التفكر في نعم الله علينا – بنا ومن حولنا – فالشكر من أعلى مقامات العبودية.
التفكر في النفس والعمل للترقي بهما نحو الكمال الإنساني.
التفكر في الوقت وواجباته لتحقيق الأهداف في أوقاتها المحددة.

هذه هي أفكار أهل الاستقامة, والتي تُنمِّى أجهزة الفطرة الإنسانية؛ فتستقيم النفس على منهج الله بوظيفتها في الحياة وهى: ( إقامة الدين الحق, وإقامة الدنيا الحارسة له ), كما قال تعالى:”لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ {25}” (الحديد: 25).

و أضيف التفكر في سنن الله و قوانينه في النفس والمجتمع من خلال التفكر بالأحداث ومجرياته. ثم تفسيرها تفسيراً إيمانياً